فصل: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله:

التفسير معناه: الكشف والإيضاح، مأخوذ من قولهم: فسرت الثمرة قشرها، ومن قول الإنسان: فسرت ثوبي، فاتضح ما وراءه، ومنه تفسير القرآن الكريم.
والتوحيد تقدم تعريفه، والمراد به هنا اعتقاد أن الله واحد في ألوهيته.
وقوله: (شهادة أن لا إله إلا الله)، معطوف على التوحيد، أي: وتفسير شهادة أن لا إله إلا الله.
والعطف هنا من باب عطف المترادفين، لأن التوحيد حقيقة هو شهادة أن لا إله إلا الله.
وهذا الباب مهم، لأنه لما سبق الكلام على التوحيد وفضله والدعوة إليه، كأن النفس الآن اشرأبت إلى بيان ما هو هذا التوحيد الذي بوب له هذه الأبواب (وجوبه، وفضله، والدعوة إليه).
فيجاب بهذا الباب، وهو تفسير التوحيد، وقد ذكر المؤلف خمس آيات:
وقول الله تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب} الآية [الإسراء: 57].
* الآية الأولى: قوله تعالى: {أولئك}. (أولًا): مبتدأ.
{الذين}: اسم موصول بدل منه.
{يدعون}: صلة الموصول.
وجملة: {يبتغون}: خبر المبتدأ، أي: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، فكيف تدعونهم وهم محتاجون مفتقرون؟! فهذا سفه في الحقيقة، وهذا ينطبق على كل من دعي وهو داع، كعيسى بن مريم، والملائكة، والأولياء، والصالحين، وأما الشجر والحجر، فلا يدخل في الآية.
فهؤلاء الذين زعمتم أنهم أولياء من دون الله لا يملكون كشف الضر ولا تحويله من مكان إلى مكان، لأنهم هم بأنفسهم يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، وقد قال تعالى مبينًا حال هؤلاء المدعوين: {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: 13-14].
قوله: {يدعون}، أي: دعاء مسألة، كمن يدعو عليًّا عند وقوعهم في الشدائد، وكمن يدعو النبي يقول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم

وقد يكون دعاء عبادة، كمن يتذلل لهم بالتقرب، والنذر، والركوع، والسجود.
قوله: {يبتغون}: يطلبون.
قوله: {الوسيلة}، أي: الشيء الذي يوصلهم إلى الله، يعني: يطلبون ما يكون وسيلة إلى الله- سبحانه وتعالى- أيهم اقرب إلى الله، وكذلك أيضًا يرجون رحمته ويخافون عذابه.
* وجه مناسبة الآية للباب باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله:
أن التوحيد يتضمن البراءة من الشرك، بحيث لا يدعو مع الله أحدًا، لا ملكًا مقربًا، ولا نبيًّا مرسلًا، وهؤلاء الذين يدعون الأنبياء والملائكة لم يتبرؤا من الشرك، بل هم واقعون فيه، ومن العجب أنهم يدعون من هم في حاجة إلى ما يقربهم إلى الله تعالى، فهم غير مستغنين عن الله بأنفسهم، فكيف يغنون غيرهم؟!
* الآية الثانية والثالثة: قوله تعالى: {وإذا قال إبراهيم لأبيه وقومه} الآيتين.
قوله: {براء}: على وزن فعال، وهي صفة مشبهة من التبرؤ، وهو التخلي، أي: إنني متخل غاية التخلي عما تعبدو إلا الذي فطرني، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام قوي في ذات الله، فقال ذلك معلنًا به لأبيه وقومه، وأبوه هو آزر.
قوله: {تعبدون}: العبادة هنا التذلل والخضوع، لأن في قومه من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الشمس والقمر والكواكب.
قوله: {إلا الذي فطرني}: جميع بين النفي والإثبات، فالنفي: {براء مما تعبدون}، والإثبات: {إلا الذي فطرنى}، فدل على أن التوحيد لا يتم إلا بالكفر بما سوى الله والإيمان بالله وحده، {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة: 256]، وهؤلاء يعبدون الله ويعبدون غيره، لأنه قال: {إلا الذي فطرني}، والأصل في الاستثناء الاتصال إلا بدليل، ومع ذلك تبرأ منهم.
وكذا يوجد في بعض البلدان الإسلامية من يصلي ويزكي ويصوم ويحج، ومع ذلك يذهبون إلى القبور يسجدون لها ويركعون، فهم كفار غير موحدين، ولا يقبل منهم أي عمل، وهذا من أخطر ما يكون على الشعوب الإسلامية، لأن الكفر بما سوى الله عندهم ليس بشيء، وهذا جهل منهم، وتفريط من علمائهم، لأن العامي لا يأخذ إلا من عالمه، لكن بعض الناس-والعياذ بالله- عالم دولة لا عالم ملة.
وفي قول إبراهيم: {إلا الذي فطرني}، ولم يقل إلا الله لفائدتان:
الأولى: الإشارة إلى علة إفراد الله بالعبادة، لأنه كما أنه منفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة.
الثانية: الإشارة إلى بطلان عبادة الأصنام، لأنها لم تفطركم حتى تعبدوها، ففيها تعليل للتوحيد الجامع بين النفي والإثبات، وهذه من البلاغة التامة في تعبير إبراهيم عليه السلام.
يستفاد من الآية أن التوحيد لا يحصل بعبادة الله مع غيره، بل لا بد من إخلاصه لله، والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام:
قسم يعبد الله وحده.
وقسم يعبد غيره فقط.
وقسم يعبد الله وغيره.
والأول فقط هو الموحد.
وقوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} الآية [التوبة: 31].
* الآية الرابعة: قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} الآية.
قوله: {أحبارهم}: والمعطوف عليها المفعول الأول لـ: {اتخذوا}، والثاني: {أربابًا} أي: هؤلاء اليهود والنصارى صيروا أحبارهم ورهبانهم أربابًا.
والأحبار: جمع حبر، وهو العالم، ويقال للعالم أيضًا بحر لكثرة علمه.
والحبر، بفتح الحاء، وكسرها يقال: حبر، وحبر.
قوله تعالى: {ورهبانهم}، أي: عبادهم.
وقوله: {أربابًا}: جمع رب، أي يجعلونهم أربابًا من دون الله، فيجعلوا الأحبار أربابًا لأنهم يأتمرون بأمرهم في مخافة أمر الله، فيطيعونهم في معصية الله.
وجعلوا الرهبان أربابًا باتخاذهم أولياء يعبدونهم من دون الله.
قوله: {من دون الله}، أي: من غير الله.
قوله: {والمسيح ابن مريم}: معطوف على أحبارهم، أي: اتخذوا المسيح ابن مريم أيضًا ربًا حيث قالوا: إنه ثالث ثلاثة.
قوله: {إلا ليعبدون}، أي: يتذللوا بالطاعة لله وحده، الذي خلق المسيح والأحبار والرهبان والسماوات والأرض.
قوله: {لا إله إلا هو}، أي: لا معبود حق إلا هو.
قوله: {سبحانه}: تنزيه لله عما يشركون.
وجه كون هذه الآية تفسيرًا للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: أن الله أنكر عليهم اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، وهذه الآية سيأتي فيها ترجمة كاملة في كلام المؤلف رحمه الله، فهؤلاء جعلوا الأحبار شركاء في الطاعة، كلما أمروا بشيء أطاعوهم، سواء وافق أمر الله أم لا.
إذًا، فتفسير التوحيد أيضًا بلا إله إلا الله يستلزم أن تكون طاعتك لله وحده، ولهذا على الرغم من تأكيد النبي لطاعة ولاة الأمر، قال: «إنما الطاعة في المعروف».
وقوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله} الآية [البقرة: 165].
* الآية الخامسة: قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله} الآية.
قوله: {من الناس}: من للتبعيض، وعلامتها أن يصح أن يحل محلها بعض، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، و: {من يتخذ} مبتدأ مؤخر، أي من يجعل لله أندادًا، ومفعولها الأول: {أندادًا} مؤخرًا، ومفعولها الثاني: {من دون الله} مقدمًا.
وقوله: {يتخذ}: جاءت بالإفراد مراعاة للفظ (من).
وقوله: {يحبونهم}: بالجمع مراعاة للمعنى.
وقوله: {أندادًا}: جمع ند، وهو الشبيه والنظير، ولهذا قال النبي لمن قال له ما شاء الله وشئت: «أجعلتني لله ندًّا؟! بل ما شاء الله وحده».
وقوله: {يحبونهم كحب الله}: هذا وجه المشابهة، أي: الندية في المحبة يحبونهم كحب الله.
واختلف المفسرون في قوله: {كحب الله}:
فقيل: يجعلون محبة الأصنام مساوية لمحبة الله، فيكون في قلوبهم محبة لله ومحبة للأصنام، ويجعلون محبة الأصنام كمحبة الله، فيكون المصدر مضافًا إلى مفعوله، أي يحبون الأصنام كحبهم لله.
وقيل: يحبون هذه الأصنام محبة شديدة كمحبة المؤمنين لله.
وسياق هذه الآية يؤيد القول الأول.
وقوله: {والذين آمنوا أشد حبًّا لله}.
على الرأي الأول يكون معناها: والذين آمنوا أشد حبًّا لله من هؤلاء لله، لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة هؤلاء فيها شرك بين الله وبين أصنامهم.
وعلى الرأي الثاني معناها: والذين آمنوا أشد حبًّا لله من هؤلاء لأصنامهم، لأن محبة المؤمنين ثابتة في السراء والضراء على برهان صحيح، بخلاف المشركين، فإن محبتهم لأصنامهم تتضاءل إذا مسهم الضر.
فما بالك برجل يحب غير الله أكثر من محبته لله؟! وما بالك برجل يحب غير الله ولا يحب الله؟! فهذا أقبح وأعظم، وهذا موجود في كثير من المنتسبين للإسلام اليوم، فإنهم يحبون أولياءهم أكثر مما يحبون الله، ولهذا لو قيل له: أحلف بالله، حلف صادقًا أو كاذبًا، أما الولي، فلا يحلف به إلا صادقًا.
وتجد كثيرًا منهم يأتون إلى مكة والمدينة ويرون أن زيارة قبر الرسول أعظم من زيارة البيت، لأنهم يجدون في نفوسهم حبًّا لرسول الله كحب الله أو أعظم، وهذا شرك، لأن الله يعلم أننا ما أحببنا رسول الله إلا لحب الله، ولأنه رسول الله، ما أحببناه لأنه محمد بن عبد الله، لكننا أحببناه، لأنه رسول الله، فنحن نحبه بمحبة الله، لكن هؤلاء يجعلون محبة الله تابعة لمحبة الرسول إنه أحبوا الله.
فهذه الآية فيها محنة عظيمة لكثير من قلوب المسلمين اليوم الذين يجعلون غير الله مثل الله في المحبة، وفيه أناس أيضًا أشركوا بالله في محبة غيره، لا على وجه العبادة الشرعية، لكن على وجه العبادة المذكورة في الحديث، وهي محبة الدرهم والدينار والخميصة والخميلة، يوجد أناس لو فتشت عن قلوبهم، لوجدت قلوبهم ملأى من محبة متاع الدنيا، وحتى هذا الذي جاء يصلي هو في المسجد لكن قلبه مشغول بما يحبه من أمور الدنيا.
فهذا نوع من أنواع العبادة في الحقيقة، لو حاسب الإنسان نفسه لماذا خلق؟ لعلم أنه خلق لعبادة الله، وأيضًا خلق لدار أخرى ليست هذه الدار، فهذه الدار مجاز يجوز الإنسان منها إلى الدار الأخرى، الدار التي خلق لها والتي يجب أن يعنى بالعلم لها، يا ليت شعري متى يومًا من الأيام فكر الإنسان ماذا عملت؟ وكم بقي لي في هذه الدنيا؟ وماذا كسبت؟ الأيام تمضي ولا أدري هل ازددت قربًا من الله أو بعدًا من الله؟ هل نحاسب أنفسنا عن هذا الأمر؟
فلا بد لكل إنسان عاقل من غاية، فما هي غايته؟
نحن الآن نطلب العلم للتقرب إلى الله بطلبه، وإعلام أنفسنا، وإعلام غيرنا، فهل نحن كلما علمنا مسألة من المسائل طبقناها؟ نحن على كل حال نجد في أنفسنا قصورًا كثيرًا وتقصيرًا، وهل نحن إذا علمنا مسألة ندعو عباد الله إليها؟
هذا أمر يحتاج إلى محاسبة، ولذلك، فإن على طالب العلم مسؤولية ليست هينة، عليه أكثر من زكاة المال، فيجب أن يعمل ويتحرك ويبث العلم والوعي في الأمة الإسلامية، وإلا انحرفت عن شرع الله.
قال ابن القيم رحمه الله: كل الأمور تسير بالمحبة، فأنت مثلًا لا تتحرك لشيء إلا وأنت تحبه، حتى اللقمة من الطعام لا تأكلها إلا لمحبتك لها.
ولهذا قيل: إن جميع الحركات مبناها على المحبة، فالمحبة أساس العمل، فالإشراك في المحبة إشراك بالله.
* والمحبة أنواع:
الأول: المحبة لله، وهذه لا تنافي التوحيد، بل هي من كماله، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله.
والمحبة لله هي أن تحب هذا الشيء، لأن الله يحبه، سواء كان شخصًا أو عملًا، وهذا من تمام التوحيد.
قال مجنون ليلي:
أمر على الديار ديار ليلى ** أقبل ذا الجدار وذا الجدار

وما حب الديار شغفن قلبي ** ولكن حب من سكن الديارا

الثاني: المحبة الطبيعية التي لا يؤثرها المرء على محبة الله، فهذه لا تنافي محبة الله، كمحبة الزوجة، والولد، والمال، ولهذا لما سئل النبي: من أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة». قيل: فمن الرجال؟ قال: «أبوها».
ومن ذلك محبة الطعام والشراب واللباس.
الثالث: المحبة مع الله التي تنافي محبة الله، وهي أن تكون محبة غير الله كمحبة الله أو أكثر من محبة الله، بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدم محبة غير الله، وذلك إذا جعل هذه المحبة ندًّا لمحبة الله يقدمها على محبة الله أو يساويها بها.
الشاهد من هذه الآية: أن الله جعل هؤلاء الذين ساووا محبة الله بمحبة غيره مشركين جاعلين لله أندادًا.
وفي الصحيح عن النبي: أنه قال: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل». وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.
قوله: (وفي الصحيح). لم يفصح المؤلف رحمه الله بمراده بالصحيح، أهو (صحيح البخاري) أم (صحيح مسلم)، أم أن المراد به الحديث الصحيح، سواء كان في (الصحيحين) معًا أم في أحدهما أم في غيرهما، وليس له اصطلاح في ذلك يحمل عليه عند الإطلاق، وعلى هذا يبحث عن الحديث في مضانه، وقد ورد هذا التعبير في سياق المؤلف للحديث في مواضع أخرى، والمراد به هنا (صحيح مسلم).
قوله: «من قال لا إله إلا الله» أي لا معبود حق إلا الله، فلفظ الجلالة بدل من الضمير المستتر في الخبر، ومن يرى أن (لا) تعمل في المعرفة يقولون: هو الخبر.
قوله: «وكفر بما يعبد من دون الله»، أي: بعبادة من يعبد من دون الله، قلنا ذلك، لأن عيسى بن مريم كان يعبد من دون الله، ونحن نؤمن به، لكن لا نؤمن بعبادته ولا بأنه مستحق للعبادة، كما قال تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 116].
وفي قوله: «وكفر بما يعبد من دون الله» دليل على أنه لا يكفي مجرد التلفظ بلا إله إلا الله، بل لا بد أن تكفر بعبادة من يعبد من دون الله بل وتكفر أيضًا بكل كفر فمن يقول لا إله إلا الله ويرى أن النصارى واليهود اليوم على دين صحيح، فليس بمسلم، ومن يرى الأديان أفكارًا يختار منها ما يريد، فليس بمسلم، بل الأديان عقائد مفروضة من قبل الله- عز وجل-، يتمشى الناس عليها، ولهذا ينكر على بعض الناس في تعبيره بقوله: الفكر الإسلامي، بل الواجب أن يقال: الدين الإسلامي أو العقيدة الإسلامية، ولا بأس بقول المفكر الإسلامي، لأنه وصف للشخص نفسه لا للدين الذي هو عليه.
قوله: (وشرح هذه الترجمة)، المراد بالشرح هنا: التفصيل، والترجمة: هي التعبير بلغة عن لغة أخرى، ولكنها تطلق باصطلاح المؤلفين على العناوين والأبواب، فيقال: ترجم على كذا، أي: بوب له.
* فيه مسائل:
فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد وتفسير الشهادة، وبينها بأمور واضحة.
قوله: (فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد).
فتفسير التوحيد أنه لا بد فه من أمرين:
الأول: نفى الألوهية عما سوى الله- عز وجل-.
الثاني: إثبات الألوهية لله وحده، فلا بد من النفي والإثبات لتحقيق التوحيد، لأن التوحيد جعل الشيء واحدًا بالعقيدة والعمل، وهذا لا بد فيه من النفي والإثبات.
فإذا قلت: زيد قائم، أثبت له القيام ولم توحده، لكن إذا قلت: لا قائم إلا زيد، أثبت له القيام ووحدته به.
وإذا قلت: الله إله أثبت له الألوهية، لكن لم تنفها عن غيره، فالتوحيد لم يتم، وإذا قلت: لا إله إلا الله، أثبت الألوهية لله ونفيتها عما سواه.
قوله: (تفسير الشهادة). الشهادة: هي التعبير عما تيقنه الإنسان بقلبه فقول: أشهد أن لا إله إلا الله. أي أنطق بلساني معبرًا عما يكنه قلبي من اليقين وهو أنه لا إله إلا الله.
منها آية الإسراء: بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
قوله: (منها آية الإسراء. وهو قوله تعالى: {أولئك الذين يدعون} [الإسراء: 57])، فبين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، وبين أن هذا هو الشرك الأكبر، لأن الدعاء من العبادة، قال تعالى: {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60]، فدل على أن الدعاء عبادة، لأن آخر الكلام تعليل لأوله، فكل من دعا أحدًا غير الله حيًّا أو ميتًا، فهو مشرك شركًا أكبر.
ودعاء المخلوق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: جائز، وهو أن تدعو مخلوقًا بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة، فهذا ليس من دعاء العبادة، بل هو من الأمور الجائزة، قال: «وإذا دعاك فأجبه».
الثاني: أن تدعو مخلوقًا مطلقًا، سواء كان حيًّا أو ميتًا فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا شرك أكبر لأنك جعلته ندأ لله فيما لا يقدر عليه إلا الله، مثل: يا فلان! اجعل ما في بطن امرأتي ذكرًا.
الثالث: أن تدعو مخلوقًا ميتًا لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة، فهذا شرك أكبر أيضًا لأنه لا يدعو من كان هذه حالة حتى يعتقد أن له تصرفًا خفيًّا في الكون.
قوله: (ومنها آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله). وهذا شرك الطاعة، وهو بتوحيد الربوبية ألصق من توحيد الألوهية، لأن الحكم شرعيًّا كان أو كونيًّا إلى الله تعال، فهو من تمام ربوبيه، قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10]، وقال تعالى: {له الحكم وإليه ترجعون} [القصص: 70].
والشيخ رحمه الله جعل شرك الطاعة من الأكبر، وهذا فيه تفصيل، وسيأتي إن شاء الله في باب من أطاع الأمراء والعلماء في تحليل ما حرم الله أو بالعكس.
ومنها قول الخليل عليه السلام للكفار: {إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني} [الزخرف: 26]. فاستثنى من المعبودين ربه.
وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: {وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون} [الزخرف: 28].
قوله: (ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: {إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني}، فاستثنى من المعبودين ربه). فدل هذا على أن التوحيد لا بد فيه من نفي وإثبات: البراءة مما سوى الله، وإخلاص العبادة لله وحدة.
وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: {وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون}، وهي لا إله إلا الله، فكان معنى قوله: {إنني براءة مما تعبدون إلا الذي فطرني} هو معنى قول: لا إله إلا الله.
ومنها آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 167]. ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنه يحبون الله حبًّا عظيمًا، لم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟!
قوله: (ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وما هم بخارجين من النار}).
فجعل الله المحبة شركًا إذا أحب شيئًا سوى الله كمحبته لله، فيكون مشركًا مع الله في المحبة، ولهذا يجب أن تكون محبة الله خالصة لا يشاركه فيها أحد حتى محبة الرسول، فلولا أنه رسول ما وجب طاعته ولا محبته إلا كما نحب أي مؤمن، ولا يمنع الإنسان من محبة غير الله، بل له أن يحب كل شيء تباح محبته، كالولد، والزوجة، ولكن لا يجعل ذلك محبة الله.
قال المؤلف: (فكيف بمن أحب الند أكبر من حسب الله؟! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟!).
فالأقسام الأربعة:
الأول: أن يحب الله حبًّا أشد من غيره، فهذا هو التوحيد.
الثاني: أن يحب غير الله كمحبة الله، وهذا شرك.
الثالث: أن يحب غير الله أشد حبًّا من الله، وهذا أعظم مما قبله.
الرابع: أن يحب غير الله وليس في قلبه محبة لله تعالى، وهذا أعظم وأطم.
والمحبة لها أسباب ومتعلقات، وتختلف باختلاف متعلقها، كما أن الفرح يختلف باختلاف متعلقة وأسبابه، فعندما يفرح بالطرب، فليس هذا كفرحة بذكر الله ونحوه.
حتى نوع المحبة يختلف، يحب والده ويحب ولده وبينهما فرق، ويحب الله ويحب ولده، ولكن بين المحبتين فرق.
فجميع الأمور الباطنة في المحبة والفرح والحزن تختلف باختلاف متعلقها، وسيأتي إن شاء الله لهذا البحث مزيد تفصيل عند قول المؤلف: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا}.
ومنها قوله: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله).
وهذا من أعظم ما يبين معنى (لا إله إلا الله)، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله.
قوله: (ومنها: قول النبي: «من قال: لا إله إلا الله....») إلخ.
إذًا، فلا بد من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة: 256].
قوله: (وكفر بما يعبد من دون الله). أي: كفر بالأصنام، وأنكر أن تكون عبادتها حقًا، فلا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، ولا أعبد صنمًا، بل لا بد أن يقول: الأصنام التي تعبد من دون الله أكفر بها وبعبادتها.
فمثلًا لا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله ولا أعبد اللات، ولكن لا بد أن يكفر بها ويقول: إن عبادتها ليست بحق، وإلا، كان مقرًا بالكفر.
فمن رضي دين النصارى دينًا يدنون الله به، فهو كافر لأنه إذا ساوى غير دين الإسلام مع الإسلام، فقد كذب قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} [آل عمران: 85].
وبهذا يكون كافرًا، وبهذا نعرف الخطر العظيم الذي أصاب المسلمين اليوم باختلاطهم مع النصارى، والنصارى يدعون إلى دينهم صباحًا ومساءًا، والمسلمون لا يتحركون، بل بعض المسلمين الذين ما عرفوا الإسلام حقيقة يلينون لهؤلاء، {ودوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9]، وهذا من المحنة التي أصابت المسلمين الآن، وآلت بهم إلى هذا الذل الذي صاروا فيه.